تجربتي مع القصة القصيرة {الرحيل} - مدونة الأستاذ عواد محمود الصبحي

مدونة الأستاذ عواد محمود الصبحي

اخر الأخبار

تجربتي مع القصة القصيرة {الرحيل}

 

تجربتي مع القصة القصيرة {الرحيل}

        هذه أول تجربة لي في مجال القصة القصيرة ولم أكن أتوقع أو يخطر ببالي أن قصتي سيقرؤها أحد ؛ ناهيك عن فوزها بمركز متقدم  ؛ ولكن بفضل الله فقد جاءني خطاب  من نادي الطائف الأدبي وبداخله الميدالية الفضية المخصصة للمركز الثاني بالإضافة إلى شيك بمبلغ أعتقد أنه تجاوز الألف ريال على ما أذكر وقد فرحتُ كثيرا بهذه التجربة الجديدة  ومنها بدأتُ في محاولات أخرى في مجال القصة القصيرة   ،،

وسأنشر “قصة الرحيل هنا ” ، مع العلم أنني حاولتُ بعدها وأنجزتُ عددا من القصص القصيرة وشاركتُ بها في عدة مسابقات ،،  وقد أجد الفرصة مستقبلا إن شاء الله لكتابتها ونشرها في المدونة وهذه عناوينها :
وفــاء امــرأة حـصــاد الشــر | زيــارة وديـّــة | المــوعـــد | ضـيـف غــريب |
شـيخ مـن الماضي | المنزل الصغيـر | الإيمـان والأمـل | الثـوب المستـكـاوي | رصيدك الوطـني.

 

وإليكم  قصة الرحيل  كما كتبتُها آنذاك وأعتقد أنها لا تخلو من الأخطاء والهفوات بحكم قلة التجربة والنضج المعرفي .

        الرحيـل

قصـة قصيرة بقلـم / عواد محمود الصبحي / ينبع ـ 1403هـ 

وذات صباح صحا القوم على أصوات الرحيل وكانت لحظة وداع تألم لها الجميـع بفيض عواطفهم وخلجـات نفوسهـم غير أن هذا الألم لم يكن بأكثر من ألم صديقهم الراحل  (أحمد ) وهو يردد كلمات الوداع . إنه يحس بأن معاناته أصبحت ثـقيلـة وقد انطـفأت في أعماقه ذبالة الأمل عندما استطاعت زوجته في وقت من الأوقات العصيبـة أن تـُزين له فكرة الرحيل من القرية إلى المدينـة وهاهو يرحل تاركاً أرضه وأصدقاءه وجيرانه ، ولكن هيهـات أن ينسى تلك الأيام الجميلـة والسعـادة الغامرة في كل يوم جُمعـة عندما يصطف أهل القرية لاستقباله على التلال عائداً من المدينـة يحمل إليهم الهدايا والحاجيـات التي يحبونهـا . هذه الصـورة الحلوة لم تغب عن مخيلتـه رغم أن واقع الحال يغلب عليه البؤس والفقر ، ولكن نستطيع أن نقفز حواجز الفاقة والعوز إلى معانٍ أرحب في نفوس هؤلاء القوم البسطاء .

ما زال أهل القرية لم يبرحوا أماكنهم حتى غاب صاحبهم عن الأنظار، وحجبته عنهم قمم التلال ومنحدرات الوديان . أخذوا يتهامسون عن سبب رحيل (أحمد ) ويبدوا أن هذا سرٌ لا يعلمه إلاّ قليل منهم وقد تبرع هؤلاء القليل بإخبار بقية الحاضرين ، وعرف الجميع أن أحمد رحل تحت وطأة إصرار زوجته التي ملّت حيـاة القرية ، وما كان منه إلاّ أن يستسـلم لرغبتها لأنه يحبها وظـلـّت هي منذ أمد بعيد تلح عليه بالرحيل فكان يُمانعها حتى وصل الأمر إلى مرحلة صعبـة خاف عندها أن يفقد حنان زوجته وحبها له وتُصبح حياتهم شقاء وعنـتـا .

سار أحمد في طريقه إلى المدينـة و هو لا يرغب في هذه الرحلة ، لأنه لا يريد أن ينتـقـل من مكان نشأ وتربى بين تلاله وظلال أشجاره إلى صخب المدينه وضجيجها ، ولكن أصداء كلمات زوجته ما زال رنينها قوياً وهي تسخر مما هم فيه : قيـظٌ شديد ، وحجارةٌ تلفظ حممها ، وشجيرات يابسـة لا تجد في طلعهـا ما يسد رمق الجياع من البهائم والطيـور.

وصل أحمد إلى المدينة وكأن حياة واضحة ومقروءة تنتظره فقد وجد له عملاً بعد فترة من الزمن في مصلحة الجمارك على بند المستخدمين . باشر عمله في أول يوم وأحس كأنه في سجن لا يستطيع الفكاك منه فما تعود على مثل هذه الظروف وقد كان طليقاً في القرية يذهبُ متى شاء ويرجع متى شاء ولا أحد يسأله أو يُراقبه وشعر بأول صدمة في حياته الجديدة ، فهو لا يعرف المدينة إلاّ من خلال زيارته لها في كل يوم جُمعـة ليُؤدي الصلاة و يعود إلى القريـة .

       أخذ يُفكر و هو عائد إلى المنزل بعد نهاية الدوام ، يسير في شوارع المدينة شارد الذهن والناس يغدون من حوله ويروحون بنشاطهم وحيـويتهم وهو لا يجد في أي صورة من هذه الصور ما يُبهج مشاعر نفسـه في أي حال من الأحوال ، وكان يعتـقـد أنه من المستحيل أن يكون هنالك إنسان ينطوي فؤاده على إحساس بالشقاء عداه  ، استسلم لواقعه واستمر في عمله مدة من الزمن ..

        و في يوم من  الأيام بينما هو عائد إلى المنزل استوقفه رجلٌ وسلّم عليه بحرارة كأنه على معرفة سابقـة به ، وأخذ أحمد يتفحّص في وجهه وأيقن أن هذا الرجل هو الذي كان في مجلس المدير صباحاً عندما دخل يُسلم عليه  ، وعرف أيضاً أن هذا اللقاء هو تـفسير تلك النظرات التي كان يرمقه بها ذلك الرجل ، ولكن ماذا دار بينهمـا من حديث ؟ .. إن هذا الذي استوقفه هو أحد التجـار والمستوردين كما يبدو من حديثه ، وكان لا بد له من توثيق صلته بهذا الموظف الجديد خاصةً وأن عمله يتعلق بمراقبة الأرصفة وإحكام قبضتـه على سنابيك البضائع ، ومن طبيعة عمل مراقبي الأرصفـة أيضاً أنهم يتعقبون المتسللـين في ظلمة الليل هرباً من رسوم الجمارك .

        أخذ التاجر يستدرج الموظف الجديد بحديث شيـّق  يستغل ضائـقتـه المالية ، وأفهمه أنه لا يطلب منه إلاّ طلباً سهلاً يسيراً ، و هو أن يغضّ نظره و يتجاهل أي حركة حول (سنبوك ) معين في ليلـة معينة ، وأن ما سيأخذه مقابل هذا العمل البسيط يُعادل رواتب سنة كاملة بدون حسميات وأوضح له كذلك عن المستقبل الذي ينتظره إن هو تعاون معه بصفةٍ دائمة ، وأسرّ له بأن جميع زملائه في هذا العمل يسيرون على هذا النمط منذ أن عُينـوا في وظائفهم التي تُشبه وظيفتـه .

         صمت أحمد لحظة هي في حسابه دهراً طويلاً و تذكر قول زوجتـه له : بأن الرزق في المدن يأتي بلا حساب ، ويصب كالمطر بلا استئذان ، تذكر هذا وتساءل في نفسه عن المصير الذي ينتظره إن هو أقدم أو أحجم .

       ودار به شريط الذكريات يذكره بحياته الكريمة في قريته رغم العوز والفقر ، وتجاذبته الأفكار إلى البعيد هناك وإلى القريب هنا وفاق من خيالاته على صوت الرجل يقول :  له فكر في الموضوع و سوف نلتـقي مرة أخرى . ذهب إلى بيته حزيناً يجتر إحساسه بالندم أن فاتته هذه الفرصة ، وفي نفس الوقت ازداد خوفه من المدينة وأهلها وأصبح متخوفاً من كل آتٍ وصمم على عدم إخبار زوجته بما هو فيه رغم أنها لاحظته شاحب الوجه غائب الذهن ليس كعادته !!  بات ليلته تلك في صراع محتدم لم يتعوده من قبل ، فأحياناً ينهاه مبدؤه الأصيل الذي تربى عليه في القرية ، ووازعه الديني الذي تشبعت به أفكاره من أن ينجرف وراء حب المادة و لذائذهـا .

       وأحياناً يُزين له شيطان نفسه هذه الصفـقة الرابحة ، ويغريه بطريقـة لا يقوى على احتمالها أو مقاومتها ، وفي الصباح تناول إفطاره وذهب لعمله وبدا كأنه تغـلـّب على خياراته الصعبة ورجـّـح أمرا ما ، فقد يئس من حياة الفقر منذ أن عرف نفسه في القرية صبياً يلعب مع أقرانه بثيابه التي لا تستر أحياناً إلاّ  جزءاً من العورة ، ثم شاباً يقضي معظم يومه بين زروع القرية المتناثرة و التي قد جف ماؤها ونضبت آبارها . وكم كان يتمنى في تلك السنين الخوالي أن تـتغير أحواله و أحوال قريته ، و لكن التمني شئ و حكمة الله في تدبير شؤون البلاد والعبـاد شئ آخر كما أن تحقيق الأحلام لا يأتي بمجرد الرغبة في ذلك . هذه قناعات تـتغلغل في أعماق نفسه و لكنها لم تـنضج بعد بل إنه لم يتهيأ لاستيعابها أو أنه يشعر بالمرارة لبلوغه سن الخامسة والثلاثين ومعالم المستـقبل لم تتضح أمامه بعد ، ولا يتصور أن يحدث ما يُغير هذا الوضع إلاّ بترجيح ما يتصارع في ذهنه الآن 

أسلم نفسه لنوازعه و جرى اللقاء بينه وبين التاجر و تم الاتـفاق على كل شئ وبعد يومين فقط !! طلبه مدير الإدارة فدخل و سلم عليه و جلس و لكـنه لم يجد أحداً في مجلسه كالعادة فانتـابه شيء من الخوف ، وفجأة دخل صاحبه التاجر من غرفة داخلية يُطل بابها على غرفة المدير سلّم وأخذ مكانه بجانب المدير ، فارتاب أحمد وأشفق على نفسه وأدرك أن ثمة أشياء لا يفهمهـا !! ثم قطع تفكيره صوت المدير يسأله :

هل تعرف هذا الرجل يا أحمد ؟  و لم يكن أحمد مستعداً لهذا السؤال

فبادره المدير قائلاً :  هذا (سالم) زميلك في العمل نحن نعتمد عليه في كل شئ إنه موظف كفء ويبـدو أنه نجح في مهمته التي كلـفناه بها أما أنت فلم يُسعـفك الحظ ووقعت في الفخ الذي نصبه لك !! و استطرد المدير في كلامه ليوضح للموظف الجديد أن هذا الأسلوب لابد من اتباعه مع كل موظف يعمل في مراقبة الأرصفة لنتـأكد من أمانته و صدقه في عمله  وأحَبّ المدير أن يُضفي على الموضوع بعض الخصوصيات  وتلطيف الجو 0فقال لأحمد :

       ــ لا عليك فنحن نعطيك الفرصة وستبقى في عملك ، لكننا رغبنا تحذيرك فقط حتى تكون على بينـة  ولا يُغرر بك فقد يُصادفك مثل هذا الذي حدث !!

انتهى المدير من كلامه؛؛  كم تمنى أحمد في تلك اللحظة الحرجة أن تغور به الأرض أو تبـتـلعه فلا يبقى على ظهرها ليسمع هذا التأنيب الحاد ، وهذه الممارسات العجيبـة التي قلّ أن تسترعي انتباه الحاذقين من الناس  وذلك حسب نظرته للأمور في تلك اللحظة بالذات .

أحس عندئذ بالندم و الحسرة ، وخرج من غرفة المدير لا يُبصر موضع قدميه ، واستأذن من رئيسه ليذهب إلى المنزل ،، وماهي إلاّ دقائق و هو أمام زوجته عصبياً ثائراً يقول لها لا بد من الرحيل إلى القرية الآن !! و بدون مناقشـة ، و كان يُـكلمها بطريقة غريبـة  ويُثرثر بأي كلام  يشتم فيه المدن و أهلها  ولكنه كان يشعر في قرارة نفسه بضعفه  واهتزاز كيانه  ، وأن تربيتـه رغم أصالتها لم تعصمه و لم تصده عن رغباته و شهواته  وكان ضميره يؤنبه على هذه الخطيئـة التي لم يحسب لها أي حساب و لكنها كانت درساً قاسياً و مؤثراً .

        حاولت زوجته أن تـثـنـيه عن الرجوع إلى القرية أو أن تـفهم منه سبب ثورته وغضبـه و لكنه أقسم ألاّ يبوح لها بشئ حتى يصل إلى القرية ، وأنه لم يعد يحتمل أن تغيب عليه الشمس في هذه المدينة ،  أيقنت زوجته أن لا مفر من الرحيل ، وأذعنت لزوجها فهو ليس كما عرفته من قبل مرن الطبع سلس القيادة ..

         وكان الرحيل إلى القريـة …

 وهناك على مشارف قريته أحس بقلبه ينبـض ثم يهدأ فيتـنفس الصعداء و تنال منه الابتسامة روحاً شفافة فتـكتحل عينـاه بقريته التي بدت تلمع سقوفها الخشبيـة من بين أشجار الأثل الطويلة ، وقد شعر بأن الزمن قد عبث به أيما عبث ، وأن أهواءه قد عصفت به في أول تجربة مريرة .

    و أدرك أن أرضه الجدباء كم هي عزيزة عليه فـقد رواها بعرقه أكثر مما روتها الأمطار ، و عزم على تحصين نفسه ضد كل نزوة ،  وأن يوطنها بالقناعة وبالرزق الحلال مهما كان قليلاً لا يفي بالحاجة و ذلك خيرٌ له من تحقيق مكسب رخيص في حيـاة ضيقـة الأفق وعقل أضيـق .

 


ليست هناك تعليقات