دخول رمضان ومدفع الإ فطار
دخول رمضان ومدفع الإ فطار
أهلا بالضيف العزيز ، والزائر الكريم ،، أهلا بمنْ تصفو به النفوس ، وترهف به المشاعر، تـَرُوعـنا حكمتـُه ، وتبهرنا عظمته ، نـُشيد بما أودعَ الله فيه من المعاني السامية ، واللمسات الحانية ؛؛ ذلك هو شهر رمضان الكريم ؛؛؛ فكل الناس ينظرون إلى هذا الشهر المبارك على أنه موسم من المواسم الدينية العظيمة .
وهنا في ينبع يستقبلون الشهر الكريم بالتهليل والترحاب كأنه أعزالأخلاء وأغلى الأحباب .
وهذه بعض ملامح وذكريات رمضان : فمنذ أن يدخل شهر شعبان الذي يسبق رمضان تبدو ملامح الشهر العظيم بادية في كل ناحية ، هكذا هي ينبع منذ أن عرفنا أهمية المناسبة فكنا نرى الأسواق عامرة بالمترددين يتزاحمون ليشتروا لوازم رمضان : من قمر الدين ، والتمر والأبازير والفحم البلدي الذي كان هو الوقود الوحيد للطبخ ، وغير ذلك من المستلزمات الغذائية ، كما أن حَـبّ القمح الخاص بالشوربة يتم شراؤه قبل رمضان بمدة كافية ليتم اجتماع النساء عليه في وقت الضـُحى فيقمن بدقّه وجرشه باستخدام المهراس الحجري .
وهناك من يهتمون بالمساجد يهيئونها ويعـتـنون بها ويطلون جدرانها بمادة ( النوره البلدي) من المصنع المحلي للشيخ / أبو منقورة يرحمه الله ، ثم ينظفونها ويفرشونها بالمتوفر من البسط أو الخصف والحنابل الهندية استعدادا للمداومة على صلاة التراويح وغيرها من العبادات .
وأيضا بعض العائلات يهيئون غرفة مجلس الرجال كي يأتي قارئ القرآن عصر كل يوم ويهبون أجر القراءة لموتاهم من الأقارب كعادة اعتادوا عليها منذ القدم .
ونرى البـِشْـر بقدوم الشهر يعلو الوجوه ويزداد فرحهم في الأيام الأخيرة من شعبان عندما ينزل المسحّر إلى الأسواق حاملا طبلته المعروفة يدندن عليها مُرحّبا بالضيف العزيز ( يا مرحبا بك يا رمضان ، يا مرحبا بك يا شهر القرآن يا مرحبا بك يا شهر الإحسان) وهناك الصبية في الحارات يرحبون برمضان بطريقتهم الخاصة ، ( يا مرحبا بك يا رمضان يا أبو الشوربة والقدحان)
وعند مغيب آخر يوم من شعبان يذكر أهل ينبع ذلك الشيخ الوقور/ علي منصور البندرون الذي يتربص للهلال على طرف سور البلدة من جهة باب الجنائز وعلى الرغم من أنه ـ يرحمه الله ـ لا يرى إلا بعين واحدة لكن الله وهبه قوة الإبصار فلا يكاد يفلتُ الهلال عن ناظره ، يبشر الحاضرين بثبوته ويعرفون ذلك من تمتماته وهزة رأسه إذ كثيرا ما ثبتت رؤية الهلال من ينبع وفي إحدى المرات استدعاه الملك عبد العزيز إلى مكة للتأكد من الرؤية وكان ذلك حديث المجالس خوفا على الشيخ من شيء يناله ، ولكنه عاد بالشرْهة والسرور بعدما عرف الملك حقيقـته وصدقه .
وكنا في ليلة الرؤية نسمع أصوات المبرقات لا تهدأ في تلك الليلة ، ومأمورو المخابرة يعكفون على أجهزتهم و( منبـْلاتهم) وهي تصدر الطنطنات ، ونشاهد حركة غير عادية داخل وحول إدارة البرق وكلما زادت أصوات المخابرة وارتفع طنينها عبر الموجة القصيرة تداخلت إشاراتها واستبشر الناس خيرا بدخول الشهر العظيم حبا وترحيبا من الأعماق بعد طول الفراق .
ولا يزول هذا اللبس والانتظار إلا بسماع أصوات المدافع تهز أركان المدينة بطلقاتها المتتابعة ويسري صداها في الأفق مخترقة الصمت ومعلنة دخول أول أيام الصيام .
وفي ليالي رمضان تفتح الأسواق ليلا لأنها في غير رمضان تغلق قبل صلاة المغرب ولا تجد دكانا يفتح بعد هذا الموعد ، وتعمر المساجد وتـُضاء الأتاريك وتكثر الحركة في الشوارع والساحات ، ويحلو السمر والتجمع لممارسة بعض الألعاب الشعبية الخفيفة .
أما مدفع رمضان فله في هذا الشهر صحبة مؤنسة ، وعادة مفرحة ، وأصوات مبهجة ، بدايتها عندما يُخرجون المدفع من مخزنه ليتم تجهيزه في المكان المخصص عند ساحة (الباب الكبير) حيث يبدأ هذا المدفع عمله منذ اللحظة التي يتم فيها ثبوت هلال رمضان في أول ليلة بعد ذلك ينتظم المدفع كل ليلة يطلق أربع طلقات أولها عند الإفطار فكل أهل البلدة يعتمدون على صوت المدفع لبدء إفطارهم لأن الأذان في المساجد لا يسمعه إلا قليل من الناس القريبين من المسجد حيث لا توجد مكبرات للصوت في تلك الأيام بل إن المؤذنين لا يرفعون الأذان إلا بعد سماعهم طلقة المدفع ، وعند منتصف الليل يطلق المدفع طلقة ثانية وهي تـنبيه لتجهيز السحور؛ أي حوالي الساعة الثانية ليلا ، والطلقة الثالثة تحذير باقـتراب خروج وقت السحور ، أما الرابعة والأخيرة فهي للإمسـاك أو التتميم كما كنا نقول وتكون قبل دخـول الفجـر بدقائق وهاتان الطلقتان الأخيرتان يسمونهما ( مدافع الشـّـكـْـلة) .
وللأسف الشديد فإننا بفقد مدفع رمضان قد انسلخ جزء مهم من عواطفنا وذكرياتنا مع رمضان التي لم ينشأ عليها جيل اليوم ، وأذكر أنه عندما أوقـفوا مدفع رمضان عن العمل لأول مرة وكان ذلك في أواخر التسعينيات الهجرية تقريبا لم يستسغ الناس هذه الحالة وعبـّروا عن استيائهم وغضبهم ، وشعر الجميع أن رمضان ينقصه شيء مهم وأنهم لم يصدقوا أن يأتيهم رمضان بدون مدفع إفطار فأرسلتْ المطالبات والبرقيات لوزارة الداخلية وللمسؤولين الكبار ، وأذكر أنه جاء من يحثـني على رفع طلب أو كتابة برقية عن هذا الوضع فكتبتُ البرقية وبعـثـناها بعشرة ريالات ، لكنني شخصيا كانت لدي قناعة بأن المدفع لن يعود ؛ فقد كبرت البلدة ، وزادت الأحياء ، واتسع العمران ، وعندها لن يكون المدفع ذا جدوى لتنبيه الصائمين بموعد الإفطار أو غيـره ، وعندما صرّحتُ بهذا الرأي قال أحد الحاضرين والمهتمين : طيّب ماذا نعمل ؟؟ فجئته في اليوم التالي بهذه الأبيات من باب الدُعابة :
ما كنتُ أحسبُ أن شهر صيامنا يأتي بدون مدافع الإفطار
فإذا بدت ْ شمس المغيب بقرصها وتهيأت فعليك بالإبصار
واصعد لها فوق السطوح إذا اختفت وإذا غـُلبتَ عليك بالمنظار
أو أنْ تكـونَ إلى المؤذن منصتـا فتقول هذا مدفعي وشعاري
وأكثر ما يميز شهـر رمضـان إضـافـة إلى الأمور الدينيـة الخـاصة بالصـلاة والزكـاة والصدقـات هناك أمور اجتماعية خـاصة بهذا الشهر الكريم ومنها اجتماع الناس على شكل مجموعـات يسمرون في المنازل حتى موعد السحور ، والبعض يجتمعـون في ساحة الحـارة على ضوء( الأتاريك ) ـ حيث لم تكن في ينبع كهرباء في تلك الفترة ـ يمارسون بعض الألعـاب الشعبيـة مثل ( الضاع ـ والكيـرم ـ والباصرة ) والبعض يذهب إلى البحر للصيد لأنه في رمضـان يكثر الطلب على الأسمـاك التي يفضلونها في وجبـة السحـور ، وقبل المغرب بقليل تشاهد الصبية خارجين من المنازل على رؤوسهم الأطباق حيث يتبادل الجيران والأقارب بعض أطعمة رمضان كالشوربة والمهلبية والتمرة الموطيّة من باب التواصل وهي عادة قديمة بدأت تضعف بحكم تغير المساكن وتباعد الأماكن ، كما نلاحظ نشـاطاً كبيراً في البيع والشـراء وارتياد المقاهي الشعبية التي تزدحم بالمرتادين ويتجمع الأطفال في كل حـارة يلعبون ويمرحـون وكل في يده كشاف صغير ينتظرون المسحـراتي يجـوب الحـارات ويقرع طبلته عند كل باب ويذكر أسمـاء أهل البيت من الذكـور أثناء مناداته مردداً عباراته المشهـورة
( لا أوحش الله منك يا شهر الصيام ، لا أوحش الله منك ياشهر القرآن )
كل القلوب إلى الحبيب تميل ومعي بهذا شاهد ودليل
أما الدليل إذا ذكرت محمدا صارت دموع العاشقين تسيل
يسلًم عليكم الشيخ فلان .. ويسرد الأسماء ثم يأتيه من يضع في يده ما تيسر من خبز وطعـام أو نقـود أحياناً ..
وفي رمضـان تنشط تجـارة الأقمشـة وكل واحد يشتري ثوباً جديداً تتم خياطته داخل المنزل أو عند بعض البيوت المشهـورة بهذا العمل إذ لا يوجد في ينبع خيّاطـون نهـائياً . وفي العشر الأواخر من رمضـان يشعر الناس بأفول أيام الشهر الكريم ويتحسرون على ذلك ويعبرون عنه باحتفالية { الوداع } مع المشايخ المشهورين بالقصائد والمدائح الدينية ومنهم : الشيخ عبد المطلوب دهيثم والسيد إبراهيم مفوز في حارة القاد ، وكذلك الشيخ قاسم الهندي والشيخ / بخيّت أبو ناب في الحارات الأخرى ، رحم الله المتوفين منهم . وكان أكثر الصبيان يحضرون جلسات الوداع مع المشايخ الأفاضل مرددين أناشيد الوداع المعروفـة ومنها :
شهر الصيام تـقضّى ما علمتُ به + وفاتني موسـم الخيرات والنّعم
يارب يا مُرتجى بلّغ مقاصدنـا + واغــفر لنا ما مضى يا واسع الكرم
وقصيدة أخرى يتفاعل معها الصبية :
قصدنا باب مولانا كريم ليس ينسانا
والصبية يرددون : لا إله إلا الله محمد رسول الله
محمد قال يا ربي سؤالك أمتي بعدي ( لا إله إلا الله محمد رسول الله )
فسامحهم من الذنب وغفار الذنوب الله ( لا إله إلا الله محمد رسول الله )
وكل بيت تزوره مجموعة الوداع يقدمون لنا الزنجبيل مع الفتوت أثناء الوداع وبعد الانتهاء يفتح كل صبي زنبيله ليأخذ ما تيسر من تمر الوداع .
تلك أيام جميلة ، وذكريات عزيزة ، نستدرها من عواطفنا ، ونستلهمها من شغاف قلوبنا ، فلا غرو أن تكون لنا من خلالها لمسات ، وبين ثناياها عبر وحكايات ،، ولنا لقاء مع فرحة العيد وأيامه الماضية إن شاء الله
ليست هناك تعليقات