عندما يكون السؤال جواباً - مدونة الأستاذ عواد محمود الصبحي

مدونة الأستاذ عواد محمود الصبحي

اخر الأخبار

عندما يكون السؤال جواباً

 

عندما يكون السؤال جواباً !!

عندما كنتُ مديرا للمدرسة قبل عـدة سنوات كلمني أحد المعلمين مستأذنا بأن أكون ضيف المجلة الحائطية التي يشرف عليها وستصدرها جماعة التربية الإسلامية في المدرسة خلال ذلك العام فأذنتُ له بذلك.

في اليوم التالي جاء اثنان من طلاب الجماعة وأعطوني مسودة الأسئلة التي سأجيبهم عليها وكان من بين الأسئلة سؤال هذا نصه :

 من المعلوم أن القرآن الكريم وردت فيه آيات كثيرة تحتوي على الإعجاز الرباني فهل لك أن تحدثنا عن هذا الموضوع ؟

       وطبعاً هناك أسئلة أخرى شخصية وسلوكية وتربوية لكن المهم أن أركز على هذا السؤال بالذات لأنه محور حديثنا ؛؛ ولأنه أيضا  يحتاج إلى مرجعية في تحضير إجابته .  بعدما  انتهيت من إجابة جميع الأسئلة سلمتهم نسخة من الإجابات وطلبتُ منهم أن يحضروا عندي  في المكتب لكي أسمع منهم طرح الأسئلة وأجيبهم على بعضها كنموذج من باب التدريب لهم  وتعويدهم على عمل اللقاءات والمقابلات وهذه الجزئية كنت حريصاً عليها لأنها في يقيني هدف تربوي وتعليمي مهم من أهداف نشاط الجماعات المدرسية .  

       حددتُ لهم موعداً في بحر  ذلك الأسبوع  فجاءوا ومعهم أوراقهم  وبدأوا يتناوبون في طرح الأسئلة  وأنا أجيبهم باختصار لأن الإجابة النموذجية هي عندهم مسبقاً.. ولكن الذي حدث أن أحد الطلاب طرح السؤال الذي نوهت عنه سابقاً وهو الخاص بالإعجاز القرآني فقال مسترسلاً :

 إن الإعجاز القرآني الذي ورد في كثير من آيات القرآن الكريم يقف الإنسان أمامه مندهشاً بعظمة الخالق و ألوهيته . فمثلاً فيما ورد عن الإعجاز العددي في القرآن ورد ذكـر الصلاة  خمس مرات  بعدد الصلوات الخمس المفروضة ، وكلمة الشهر وردت (12) مرة بعدد أشهر السنة ، وكلمة اليوم وردت (365) مرة بعدد أيام السنة .. ومضي الطالب يقرأ من الورقة التي معه وأنا أستمع إليه ولم أقاطعه . فقال :  وهناك مفاجأة أخرى حيث وردت كلمة البحر (32) مرة و البر (13) مرة وهي نفسها نسبة وجود الماء إلى اليابسة على سطح الكرة الأرضية كما يثبتها العلم الحديث . 

ثم صمت قليلاً وتذكر أنه لم يطرح السؤال بعدها نظر إليّ قائلا : فهل تحدثنا عن هذا الإعجاز العظيم ؟  فابتسمتُ مما سمعت  و قلت له :

نعم إن القرآن الكريم يحتوي على إعجاز رباني مدهش كما أوضحتم في سؤالكم .. ولا أستطيع التوسع في الكلام لأن ورقة الإجابة الخاصة بهذا السؤال ذهبت مع الأوراق  التي معكم  و قد سمعنا منك الإجابة كاملة فهات السؤال الذي بعده …… فضحكوا وضحكنا جميعاً على ما حدث من لخبطة بين أوراق الأسئلة والأجوبة  التي في أيدي  الطلاب ، وما زلت أذكر ذلك الموقف الطريف كلما شاهدتُ موقفا مشابها له ؛؛؛ حيث رأيتُ  مقابلة تلفزيونية قبل أسابيع عن الذكريات سأل المذيع الضيف قائلاً : هل الذكريات تعبر عن الحنين والعاطفة للماضي في حياة الإنسان ؟

قال الضيف : نعم … و سكت فكان المذيع ينتظر منه أن يتكلم ويتوسع ولكنه لم يفعل فنظر المذيع إليه وقال له : تفضّـل  …  يريده أن يستمر في الكلام فقال : أجبتك على قدر السؤال  . 

       وهذا يقودنا إلى ما نسميه ((حرفية السؤال)) بفتح الحاء  إذ أن طرح الأسئلة  فـن يستخدمه أصحابه لاستخراج الإجابة كاملة وافية كما يريد السائل ، وبالمناسبة فإنّ أكبر عيوب الأسئلة أن يحتوي السؤال جزءاً من الإجابة أو يوحي بها ، وفي نظري أكثر المآخذ تكون على الأسئلة التي تبدأ بـ (هل) لأن إجابتها غالباً تكون بـ( نعم أ و لا ) ، أما الأسئلة التي ينطلق بها الحوار فهي التي تبدأ بـ ( كيف ) ولماذا ؟

غير أن أسوأ الأسئلة على الإطلاق ما  كانت فيه  الإشارة إلى سلبية السائل وهواه لكي يستدرج صاحب الجواب فيحقق رغبته والاتفاق مع رأيه ..

ومن هذه الأسئلة التي لفتت نظري  .. سأل أحدهم رجل الدين أو المفتي في بداية عهد صناعة الدراجة  : “ما ترى في ركوب (البيسكل) ؟؟ وهو مركوب سريع المسيار، وهو من البدع التي ابتدعها النصارى في ذا العصر ونشروها في الاقطار؛  لأننا رأينا من كنا نعتقد منه الصلاح فركب ذلك فآل أمره إلى الفساد  إذ انفرد بركوبه النصارى والهنود ثم صار فاشياً في أولاد العرب وغيرهم… ما ترى في ركوبه؟

وكما نلاحظ هنا أن السؤال سيقود عالم الدين إلى إجابة محددة سلفاً، فطريقة تقديمه لظاهرة الدراجة النارية سلبية تماماً فهي (بدعة نصرانية) وتؤول  بصاحبها إلى “الفساد”. فما كان من المفتي إلا أن يظهر وعيه بالطريق التي سيأخذه إليه السائل ؛ أي الهدف الأميل الى التحريم فلا يمضي معه إلى ما يريد . فكان جوابه ذكيا عندما أدرك ما يحاك له فقال :

 “لا أعرف ما البيسكل فكيف أقول في شيء لا أعرفه”، لكن لا وجه للقول بمنع ركوب شيء  لكونها من بدع النصارى”، فالمراكب البرية والأساطيل البحرية جميعها مبتدعة .

 ومما سمعته أيضا على هذا النمط من الأسئلة عندما يكون السؤال عن العزاء الذي يتم بعد دفن الميت في مجتمعنا ..  فنلاحظ السائل يقول :

يافضيلة الشيخ :  ما تقول فيمن يأتون لأهل المتوفى  أفواجا يتعاقبون أمام داره وأهل الميت يصطفون لهم فيأتي كل واحد يعزيهم بطقوس معينة بحيث يضع يده اليمنى على كتفه الأيسر يقول له أعظم الله أجرك فيرد عليه : جزاك الله خيرا ،  وتوضع في المكان الكراسي واللمبات الكهربائية فيبدو المكان أشبه بحفل زواج ، يجتمع الجالسون يتبادلون الضحكات  في أمور الدنيا … ويسترسل السائل في هذه العبارات كي يلوي ذراع الإجابة لصالحه .. فيضطر المفتي إلى القول : إن كان العزاء كما ذكر فهذا لا يجوز …وهذه بلا شك مغالطة من السائل ؛ لأن المخالفات التي تكلم عنها ليست عامة في كل عزاء وليست نمطا يتبعه الجميع ؛؛ بل هي مخالفات فردية ومبالغات قد تحدث من البعض فلماذا التعميم والإيحاء .

هذا مجمـل  ما أردت الإشارة إليه  من عنوان الموضوع :

( عندما يكون السؤال جواباً )

ليست هناك تعليقات