بيـن الساحلـيـْـن - مدونة الأستاذ عواد محمود الصبحي

مدونة الأستاذ عواد محمود الصبحي

اخر الأخبار

بيـن الساحلـيـْـن

بيـن الساحلـيـْـن


هذه القصة الثانية اشتركتُ بها في مسابقة نادي القصيم الأدبي عام 1405هـ 

وحصلت على المركز الثالث ومبلغ ألف ريال .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 على الساحل الصغير بمدينة ينـع ـ وهو المخصص لقوارب الصيـد ـ تجمّع الناس وقد توزعوا فيما بينهم المواقع المطلة على البحـر، واختار كلٌ منهم مكاناً مميزاً يستطيع من خلالـه أن يكشف الأفق البعيـد للبحر ؛ ولكنّ شدة العاصفـة لا تمكّن الناظر من أن يرى إلاّ أمواجاً تتلاطم  ، وقوارب تصعد وتغوص في عمق البحر،  وقد تركهـا أصحابهـا في  المرسى الصغير  بعد أن أوثـقوها بالحبال التي تقطّع أكثرها عند بداية العاصفـة على الرغم من كل ذلك لم يفقد الحاضرون الأمل في عودة رفيقهـم (سعد)

        خيّم الصمت على المكان ، مرّ ضابط خفر السواحل ، سمعوه يتحدّث عبر جهـاز الإرسال ، عرفوا أن طائرة الدفاع المدني ستشـترك هي الأخرى مع رجال خفر السواحل في عمليـة الانقاذ .. استبشروا خيراً و ذهب أحدهم إلى منزل الشيخ ( عطاء الله) والد سعد إذ هو لا يـبعد عن المكان إلاّ بضع خطوات ليبشره بما رأى وسمع إنهم يتلمسون خيوط الأمل في أي شئ  تهيأ الشيخ عطاء الله للخروج من داره وهو يكرر  لقد نصحته هداه الله ألاّ يذهب إلى البحر في هذا الأسبوع تحسباً لكل شئ ، ولكن ماذا كان بيدي ‍‍‍‍ لقد نسي الجيل الحاضر حسابات أجدادهم ، لا يُقيمون وزناً للأنـواء ،  ولا يهتمون بمواعيدها ومسمياتها ..

         عند باب الدار لحقت به ( فاطمة) زوجة ابنه سعد تتوسل إليه أن يعمل أي شئ لإنقاذ زوجها كان لابـد أن يضطرب الشيخ عطاء الله بمجرد أن يرى فاطمة ويتذكر الشهور القليلة التي مضت لتوها حافلة بالأفراح و مشاركة أهل الحارة جميعهـم رجالاً و نساءً و صبياناً في حفل زفاف ابنه على ابنة عمه فاطمه .. غير أنه بدا رابط الجأش أو كان يتخيـل أنه لا بد أن يكون هكذا .. نظر إليها بحسرة .. حاول إخفاء دموعه قال ( ابشـري) ” يا بنيتي ” الأمل في الله كبير .. خرج و أغلق الباب خلفـه ..

       صعدت فاطمه إلى ( الطبقـة ) تترقب بلهفة ، تنظر من ثقوب الحائط إلى هذا الجمع المهيب من أهل الحارة والصيادين كلهم عيـونهم إلى البحر علّهم يلمحـون شِراعاً يخفق أو علامةً تنبئ بوجود سعد على قيد الحيـاة .

           تعبت رِجلا فاطمة من الوقوف والانحناء تناولت شرشفاً من حبل الغسيل عندما شعرت ببرودة الجو ، لفّـتـهُ حول عنقها ورأسها كان وجهها ساكناً شاحباً ، وشفتاها ملتصقتين يُخيّل إليها أنها لا تستطيع فكّهما عن بعضهما أسندت رأسها إلى الحائط الجانبي بعد أن جلست و ملّت من كثرة التحديق عبر شقوق الحيطان ، شعرت بضيق صدرها وقفت ثانية كأنها تبحث عن هواء تتنفسه ، تحرّكت إلى الخلف قليلاً ، أمسكت بالجدران شعرت بإغماءةٍ خفيفة ، لم تعد ترى الأشياء التي أمامها ، خافت مما أصابها لكنها تذكرت أن هذه الحالة كانت تُصيبها كلما وقفت فجأة .. تحسنت حالتهـا قليلاً بدأت تُبصر ما حولها ، فكـّرت في الجلوس مرة أخرى لكنها ترددت .. لا تعرف ماذا تريد هل تقف ؟ أم تجلس ؟ أم تنزل من الطبقة ؟ .. فجأة يُنقذها من هذا التردد وهذه الحيرة صوت أخيها (أحمد) حاولت مسح ما تناثر من دموعها عندما سمعتـهُ يصعد درجات السلـم الخشبي لكن أحمد رآها بحالتها تلك .. أخذ بيدها وأنزلها إلى المجلس  لم تتمالك فاطمة نفسها أعطاها الفرصة لتبكي عسـاها تستريح و تهدأ قليلاً .. ثم التفت إليها لكن لم تعطه مجالاً للكلام كانت هي البادئة .. من كان يتنبأ  يا أحمد أن العاصفة تهبّ قبل موعدها هكذا دون سابق إنذار .. ليت ( سعد)  سمع كلام والده مثل كل مرة ينصحه فيها يحذره من بداية دخول فصل الشتاء ،  يسرد  له أسماء العواصف وأوصافها ومواعيدها و لون هبابهـا .. آه  أه لا فـائدة من هذا الكلام لقد وقع ما كنت أخشـاه وانتهى الأمر ..

         سحبَتْ نفَسَاً عميقاً أحسّتْ كأن شعلة نار تخرج من بين رئتيها ، تدخـّـل أحمد .. ماذا أصابك يا فاطمة ؟ قاطعتـْهُ قبل أن يسترسل في الكلام .. أعرف ما ستقوله يا أحمد .. إنك تحاول تهدئة الموقف كعادتك حتى ولو كان الأمر يتعلق بفقد عزيز أو قريب أليس هذا هو مبدؤك منذ أن عرفتك !! تحمّس أحمد للكلام فأسكتها بشدة .. يا فاطمة لماذا تنظرين إلى الأمور كأن كل شئ قد انتهى .. الخلق لا يملكون تصريف كل ما يخصهـم في هذه الدنيـا .. زوجك سعد إن لم ينته أجله فلن يُصيبه مكروه .. سيعود حياً لو أخـرجوه من أعماق البحر .. إن هذا الذي تصنعينه ليس من سمة المؤمن بالله … إن الأرزاق و الآجال بيد خالقهـا ومقدّرها .. لقد علمتُ بأنك منذ يوم أمس وأنت لم تستطـعمي زاداً ،  ولم تنامي ،  ولا أدري ربما لم تصلِّ أيضاً .. هل سيطر عليك اليأس و القنوط فأنسـاك كل شئ  إلاّ البكاء و اللطم والتعديد .. يجب أن يكون لك رصيد من الصبر على مكاره الدنيا و آلامهـا .. إن الذي أراه فيك ضعفٌ واستسلام بل وبُعدٌ عن المنهج الاسلامي ، قولي الحمد لله على كل حالٍ ، قومي توضئي و صلّي ركعتين لله .. أشبعيهمـا بالذكر والدعـاء ، كوني قريبـة من الله .. أخذ أحمد بيدها فأنهضها وأوقفها عند صنبور الماء بعد أن لاحظ تغيّر ملامحها و تأثرها بكلامه .. فتح الباب ليخرج وهو مطمئنّ عندما رآها بدأت تغسل أعضاءها و تتوضأ0 وبعد أن هدأت قليلاً دخل عليها بعض النسـوة من الجيران يُخففن عنها و يذكرْنهـا بكثير من الحوادث التي تـُشبه حادثة زوجها و قد انتهت بسلام .. أما هي فكانت سارحة فيما يُشبه أحلام اليقظـة ، تستعيد شريط ذكرياتها خلال المدة التي مضت على زواجهما تذكّرت أماله العريضـة ؛ وكيف أنه سيشتري قارباً جديداً من المستورد ويُدخِلُ عليه تحسينـات لم يسبقه إليها أحد تجعله يتناسب مع طبيعة عمله و بيئته ثُم يُنشئ مؤسسة صغيرة لتصدير الأسماك و يستقدم عدداً من العمال والصيادين …

          هكذا توالت عليها الأفكار و تزاحمت في خيالها فاستسلمت لإغفاءة خفيفة  فَرحَ مَنْ حولها من النسوة بأنها ارتاحت من معاناتها فتسللن بحذرٍ إلى الغرفة  المجاورة يستقبلن بقية نسـاء الحارة وتركنَ فاطمة بين خيالاتها و أحلامها الحزينـة .. 

          أما هناك على الساحل ففي كل لحظة يمرّ مشهد من مشاهد الارتباك والحيرة واختلاف المقاييس بين الخالق والمخاليق ، يتساءلون في شكٍ ، ويُجيبون على أنفسهم في تردد ، مناظر لا مكان فيها إلاّ للحزن والأسى الذي يرتسم على كل الوجوه ، فتلك مجموعة من الصيادين يتبادلون أطراف الحديث من واقع خبرتهم وتجاربهم ويُجْمعونَ  أن (سعداً ) لم يفعل كذا . و لم ينتبه لكذا .. و غاب عنه كذا و كذا .. و لو أنه عمل كذا و أخذ كذا … كثيرةٌ هي لم … و لو  .. التي تتردد دائماً عقب كل حادثٍ فيعقبه حديث المتسائلين وتعليق المعلقين والمحـللين 

         وتلك مجموعة أخرى اعتـلى أفرادها القوارب المكسرة وبقايا السنابيك يتخاطفون المنظار المكبّر من بعضهم يُحملقون به في زرقة البحر، يتخطى نظرهم جزيرة ( العباس ) المطلّة على الميناء ، يترقبون لحظة هبوط الأمواج تتسلل عيونهم عبر الصواري والحبال المتشابكة يأْملون أن يروا ما يُبشرهم بخير .. ألم يكن  (سعد) صديقهم ، ورفيق رحلاتهم ،  وابن شيخ الصيادين ، وزينة شباب الحارة من الطبيعي جداً أن يحزنوا و يجهدوا أنفسهم ليرابطوا على الساحل تحسباً لكل طارئ وتلبية لأي طلب يأمر به الشيخ عطاء الله أ و يستلزمه الموقف .. أما الشيخ عطاء الله نفسه فقد التفّ حوله كبار السن يُخففون عنه ما أصابه و يـبـثـّون في نفسه الأمل برجوع ابنه سعد سالماً بإذن الله رغم قناعتهم بأن هذه العاصفة لا ينجو منها أحد إلاّ من كـُتب له عمرٌ جديد ..

        فجأة لمحوا زورق خفر السواحل ، نهضوا جميعاً ، اقترب بعضهم من حافة البحر، صعدوا على القوارب المحيطة يستطلعون الأخبار ، وقف الزورق في المرسى المخصص له يبدوا أن بحارة الزورق لم يأتوا بشيء يستحق مساءلتهم .. مرت لحظة صمت رهيبة ،  نزل أحد بحارة الزورق في اللنش الصّغير واتجه صوب أقرب مجموعة من الحاضرين ذهبوا إليه مسرعين قبل أن يصلهم ، يخوضون في البحر إلى رُكَبِهم أخرج لهم البحار قطعة من قارب قديم ليتعرفوا عليها قائلاً : لم نجد غير هذه القطعة على ساحل ( أم المسك ) صرخوا جميعاً … إنها من قارب سعد هذا جزء من لونه الأخضر … تراجعوا إلى الوراء أصابتهم صدمة عنيفة قطعت كل أمل لهم في العثور على صاحبهم ،  وخرج بعضهم من البحر و لكن ليس بالطريقة التي جاءوا بها حيثُ تسللوا إلى مكان آخر بعيدا عن مجلس الشيخ عطاء الله و بعضهم ظلّ واقفاً مكانه لا يُقدم ولا يُؤخر! ماذا يفعلون ؟ .. نظروا في بعضهم .. رأوا أحذيتهم التي تركوها على حافة البحر تطفو وقد سحبها التيار إلى جهة أخرى أحسوا بأن وقوفهم قد طال تحركوا قليلاً بعد أن أوعزوا لبحارِ خفر السواحل بإخفاء قطعة القارب التي أحضرها و لو بعض الوقت حتى يتصرفوا بطريقةٍ أفضل .. إنهم يمشون بتثاقلٍ ، والخيبة تلفّهم لكنهم لم يفقدوا قدرتهم على التصرف بحكمة حيثُ اتفقوا على شئ يقولونه للشيخ عطاء الله .. غير أن الشيخ كان أسرع من تصرفاتهم ـ أليس هو شيخ الصيادين لأكثر من ثلاثين عاماً ـ فقد فَهِم من تصرفاتهم وتقاسيم وجوههم أنه ليس ثمة شئ  يُبشر بالخير .

         حدثت بلبلة و كلام هنا وهناك ، وتكتّم على الأخبار .. وضع الشيخ عطاء الله رأسه بين ركبتيه وهم من حوله  يرقبونه ، يُشفقون عليه من وقع الخبر وتفاصيله فربما أهون عليه لو كان الأمر كما تصور هو بأنهم لم يعثروا على شئ .. و لكن مجرد رؤيته قطعة من قارب ابنه فهذه كفيلة بإنهاء أي أملٍ كان في مخيلته .. هدأت الأمور بعض الشيء رفع الشيخ رأسه سألهم : ماذا قال بحارة الزورق ، أخبروه بالحقيقة لم يتوقعوا ما حدث ، تغيّرت ملامح وجه الشيخ ، نهض من مكانه سألهم هل صحيح أنهم وجدوا قطعة القارب على ساحل ( أم المسك ) نعم صحيح بل ورأيناها بأعيننا .. توجه إلى القبلة رفع يديه إلى السماء وتمتم بدعاء لم يسمعوا منه إلا ( يارب يا كريم )  ترك الشيخ مكانه وهم حوله لا يدرون ماذا يضمرفي نفسه ثم أوقفوه سألوه ما الخبر يا شيخ ؟ .. قال أذكر حادثتين وقعتا بهذه الطريقة على ساحل (أم المسك) وقد وجدنا الصيادين أحياء في مدينة (رابغ) حيثُ يجرفهم مدّ التيار والأعاصير إلى هناك في المراسي الصغيرة الهادئة و هذا يدل على أن الهواء لم يقذف به غرباً في المناطق الخطيرة قرب مجرى البواخر وفي الأعماق المظلمة .

       فرحوا جميعاً بفرح الشيخ مع أنهم لم يجدوا في كلامه ما يدعوا للفرح بهذه الطريقة خاصة وأن قارب سعد لم يبق منه إلاّ قطعاً متناثرة كالتي رأوها مع بحّار خفر السواحل .. بدأ الأمل يدب في النفوس من جديد و خرج الشيخ عطاء الله من صمته وهم له سامعون فـاتـّفـقـوا على أن يذهب الشيخ إلى المسؤولين عن المبرقات لتسهيل الاتصال بالموانئ و المرافئ الصغيرة على ساحل البحر مثل رابغ و مستورة وغيرهما .. ذهب الشيخ في الحال فرحبوا به ، و تم الاتصال فوراً بالإشارات اللاسلكية .. مرّت ساعات رهيبة مليئة بالخوف من المفاجآت المزعجة ، جاء الرّد بعد ثلاث ساعات .. إخبارية من رابغ ، لقد عثر الصيادون على شخص مجهول وسط ثلاجة الأسماك الخشبية وهو الآن في المستشفى في حالة غيبوبة . طاروا من الفرح يصرخون و يقفزون السلالم يـُبشرون كل من ُيقابلهم في الطريق رغم أنه ليس بالتأكيد أن يكون الشخص المجهول هو ( سعد ) لكنها الآمال دائماً تبدأ صغيرة هشّة يرعاها التفاؤل وتُغذّيها حُسن النية بالخالق جلّ وعلا ..

       جهّـزوا سيارة للسفر إلى رابغ وأخذوا خطاباً من الإمارة لتسهيل الإجراءات وتوكلوا على الله وهناك تفتّحت براعم الأمل من ثنايا اليأس عندما رأوه رأي العين فانكبوا عليه باكين من شدة الفرح و كأن أجنحة الحمام تحملهم عائدين ينفضون عن نفوسهم وعثاء الحزن و يسكبون الفرحة إحساساً في كؤوس الزمن … أما فاطمة زوجة سعد فكانت أول الناظرين ومن ( الطبقة ) نفسها التي شهدت ساعات الألم والحسرة في أيامٍ مضت كئيبة حزينة .. فلابد لهما ( لفاطمة و سعد ) من الإبحار إلى شواطئ الأمان فتحكي فاطمة لزوجها حكايات الحب التي كادت تختنق أو تتوقف ويحكي لها سعد لحظات الفزع التي ظل يُطاردها بصيص الأمل في صراع عنيف   (بين الساحلين ) لتحسمه قدرة الله و إرادته.

ليست هناك تعليقات