يا الله
يا الله
أشار أحد رجال الشرطة إلى الرجل بالنزول فردّ قائلاً : لا تحاولوا إقناعي أو تغيير رأيي فأنا لا زلت مصراً على أن الحضارة الإسلامية ستكتسح العالم بفضل القوة الفكرية والثقافية التي يملكها المسلمون ، وحتى لو ينقصهم شيء فبإمكانهم استعارة ذلك من الحضارات الأخرى ؛ لأن السيطرة في هذا المجال عبارة عن تغيير مواقع لا أكثر ولا أقل .. دُهش رجل الشرطة مما سمع و تساءل أمام الحاضرين : ما مناسبة هذا الكلام ؟ وهل هذا الرجل بعقله أو هو ،،، ولم يتركه أحدهم في حيرته وهمس في أذنه
ـ إنه يُعاني !!!
ـ قال : مم يُعاني ؟
ـ قال : أنا أعرفه لأنني أسكن في هذا الشارع ، ودعْـني الآن أُكلمه وأدخل معه في نقاش قصير لتـكتـشف حقيقة أمره ..
ـ صعد الجميع بأنظارهم إلى النافذة والرجل يُحاوره :
ـ انزل يا أحمد لنتـفاهم .
ـ قال : تـتـفاهم معي في أمور واضحة كالشمس.
ـ ولكنك يا أحمد قد نسيت حضارات الأمم الأخرى كالصين و اليابان .
ـ سكت قليلاً ثم ردّ عليه : ولكنهم يُشكلون دوريات تُطاردنا .
ـ و أنت ما الذي يُضايقك من المطاردة .
ـ إنها تمنعني من الحرية ؛؛ هل تُصدق أنني اليوم كنت عازماً على الذها ب إلى سوق السمك فلم أذهب خوفاً من المطاردة …
ـ و لكن ما الحل في نظرك ؟ ..
ـ الحل أن تستولي الصين على جمهورية أرمينيا الروسية ، ونُحقق مطالب الأرمن وأن تـُفتح الحدود بين روسيا والصين و باكستان و الهند .
ـ و لكن ما علاقة هذا بما قلته عن الحضارة ؟ .. زمْجر في وجهه بشدة قائلاً: اذهب عن وجهي إنني أريد كيساً من الهيروين !!!!
نظر رجل الشرطة في وجه مُحدّثه مستغرباً ومندهشاً لما يسمع فأخذه الرجل بعيداً عن زحمة الحاضرين وبعد أن هدأت الأمور و انفضّ الناس من حولهم أخذ يشرح له القصة بالتفصيل … إنها قصة غريبة فعلاً فهذا الشاب في مُقتبل العمر كان على وشك التخرج والانتهاء من رسالة الماجستير التي تقدّم بها ، ولكن حدث ما لم يكن متوقعاً .. دعاه أحد أصدقائه الأثرياء جداً إلى رحلة سياحية زارا خلالها بعض الجزر في شرق آسيا ، و جلسا شهراً تقريباً عاد بعدها صاحبنا و قد تغيّر تماماً في سلوكه و كل تصرفاته و تابع الرجل حديثه .. شيء مؤسف ما حدث لأخينا لقد تخلّى عن رسالته التي كان يزمع إنهاءها و جلس مسجوناً في منزله لا يُقابل أحداً ولا يُكلم إنساناً ، و قد علمتُ أن بعض أصدقائه زاروه وعندما سمعوا منه هذا الهذيان أدركوا سوء حالته 0 ولكن أهله كانوا يتكـتمون على أمره حتى بدأ يتصرف هذه التصرفات الغريبة ، ولمْ يكن يُحدثك أي حديث حتى يذكر لك الحضارات القديمة وغير ذلك من الجمل و العبارات الغير مفهومة لأن موضوع رسالته التي كان على وشك إنهائها في هذا المجال .. و بكل أسف أخبرني أحد أقاربه بأن المسكين أصبح مدمناً بسبب تعاطيه مادة الهيروين في رحلته المشؤومة ، وعندما عاد إلى هنا لم يتمكن من الحصول على هذه المادة فلجأ إلى بعض أنواع الحبوب والمخدرات الأخرى مما زاد حالته سوءً …
في تلك اللحظة تصرف رجل الشرطة بحكمة حيثُ استدعى أحد أقارب أحمد وبطريقة خاصة طلب طبيب الصحة النفسية و عُملت الإجراءات اللازمة لنقـله إلى المستشفى بعد أن قرر الطبيب إصابته بالهلوسة من جرّاء تعاطي المخدرات و إدمانه عليها ، وألمح إليهم بأن حالته قد تكون من الحالات الصعبة حيثُ سيمكث في المستشفى فترة طويلة لأنه دخل في مرحلة الجنون …
انتهت إجراءات نقله إلى المشفاة و لكن المسؤولين هناك فوجئوا برجلٍ كبير في السن تبدوا عليه علامات الوقار والهدوء أخذ يتكـلم مع الطبيب بلهجةٍ قاسية نوعاً ما ويظهر أنه قريب لصاحب الحالة .. ويقول للطبيب : لقد شوهتم سمعتـنا بهذه الطريقة هذا ولدي وأنا أعرفه وحالته لا تستدعي كل هذه الأمور ، إنه ( ملموس) لقد سيطرت عليه أرواح شيطانية فبدأ يتصرف كالمجنون و نحن نعرف علاج مثل هذه الحالات ، ولا داعي لكل هذه الإجراءات التي عملتموها (خليتو اللي ما يشتري يتـفـرج ) حاول المسئوولون تهدئة الرجل ثم تحدّث معه الطبيب قائلاً : يا عم نحن نحترمك و نحترم كلامك ، ونقدر مشاعرك ، و لكن في الوقت نفسه أقول لك و بكل صراحة بأن ابنكم تـفـشّى فيه داء الإدمان للمخدرات ، و قد مرّت علينا حالات كثيرة مُشابهة0 وكل ما أرجوه منك أن تُسلّم أمرك لله و تدعو له بالشفاء .
دار بينهما نقاش لم يستمر طويلاً فهدأ الرجل بعض الشيء مما حدا بالطبيب أن دعاه ليصحبه إلى مستشفى الصحة النفسية لرغبتـه في التحدث إليه بشكل أوسع وأشمل ، فلبّى الدعوة وأجلسه الطبيب إلى جانبه في المقعد يُحادثه بطريقة تُخفف عليه وقع المصيبة التي هو فيها 0وتأكد من خلال حديثه معه بأن( أحمد ) هو ابنه الأكبر وأنه كان يؤمل فيه كثيرا ولم يكن يتوقع أن يحدث له ما حدث0
وصلوا جميعاً إلى المستشفى و باشر الطبيب عمله و إجراءاته ثم تفرّغ لصاحبه وقد هدأت أعصابه وبدت عليه علامات الاستسلام للواقع ، فنهض الطبيب وأخذ ضيفه إلى ممر طويل في المستشفى عـُـلـّقتْ في نهايته لوحة كـُتب عليها “الحالات الخاصة” ثم فُتح باب يؤدي إلى ممر آخر تـتـناظر فيه غُرف صغيرة تصدر منها أصوات وضوضاء غير مفهومة !! سأل أبو أحمد الطبيب :
ـ إلى أين أنت ذاهب بي ؟
ـ يا عم أريدك أن ترى بعينـيك الحالات المشابهة لحالة ابنك ، وأريدك أن تسمع بعض المآسي التي تـُسببها المخدرات وآثارها على أبنائنا ، أشار إلى الغرفة رقم (4) .
ــ هذه الغرفة ينزل فيه واحدٌ من الشباب سوف تراه الآن وتحكم على حالته ، و فتح الباب فأطلّ منه شخصٌ تـدل ملامحه على أنه شابٌ لا يتجاوز العشرين و لكن شكله وتقاسيم وجهه تجعله غير ذلك … سلّموا عليه فلم يرد السلام ، وتركوه سارح الذهن ، قال الطبيب لصاحبه :
ــ إنّ جميع هذه الغرف التي تراها أصحابها على هذا المنوال ؛ إنهم في حكم الأموات ينتظرون الموت أو البقاء على هذ الحالة ، حالاتـهم ميؤوس منها إلاّ إذا أنـقذتهم معجزة إلهيـة …
ثم اصطحبه إلى صالة كبيرة تتوفر فيها (ألعاب البلياردو ووتـنس الطاولة ) وغيرها وكل من بداخلها شباب يتدفـقون حيويةً و نشاطاً يرتشفـون أكواب الشاي في غاية السرور ، و المرح ، فحيوهم ، وردّوا عليهم التحية ورحبوا بالطبيب ومن معه .فـعرّفه الطبيب بأسمائهم المستعارة ، وتجاذب معهم أطراف الحديث حتى ألفوا الزائر الضيف ، ثم تحدّث معهم الطبيب قائلاً :
ــ يا أعزائي هذه الرجل ضيفٌ علينا و زائرٌ كريم جاء إلى هنا بدعوةٍ مـنّا ، و هو يتألم من حالة ابنه الذي أصابه ما أصابكم من تعاطي المخدرات ، و لكنه لا يُصدق أن هذه الآفة تفعل بالشباب ما لا يُصدقه العقـل ، وتـُدمّر مستقبلهم ، وتقضي على كل أملٍ لهم في الحياة ، وتُؤدي بهم إلى النهاية المحزنة ،، تابع الطبيب حديثه :
ــ لقد دعوته هنـا ليسمع منكم بعض القصص و الوقائع التي لا شك أنكم تتحدثون بها وترْروُنها لكل من يريد أن يسمعها لتكون فيها عبرة للغير بعد أن نجوتم من شرها ، وأصبحتم على وشك الخروج من هنا لتبدؤوا حياة جديدة.
تحدّث أولهم فقال :
ـ كنت من المحبين للسفر إلى الخارج ، وفي إحدى زياراتي لدولةٍ عربية نزلت بأحد فنادق العاصمة ، بعد يومين فقط ذهبت إلى ( الكـفتيريا) و طلبتُ كوباً من الشاي ثم فتّشتُ في جيوبي فلم أجد علبة السجائر معي فقـلت للجرسون هل عندكم سجائر من نوع كذا ؟! فقال : لا ولكن عندنا سجائر أحسن وأكثر كيفاً فأحضر لي سيجارة فأشعلتها ووجدتها منعشة ومكيـفة ، فتكررت زياراتي له و كان في كل مرة يُناولني سيجارة و يطلب منّي مبلغاً زهيدا من المال فأُعطيه ، و بعد ذلك كان يغيب عنّي فأبحثُ عنه لدرجة أنني كنت أجلس في الكفتيريا كل وقتي أنتظر الجرسون الذي كان يتعمّد الهروب منّي حتى تشتدّ حاجتي إليه فأدفع له مبلغاً أكثر … و كانت هذه بدايتي فرجعتُ إلى بلدي و أنا مولع بهذه السجائر، وعرفتُ بعد ذلك أنني أصبحتُ مدمنأ للحشيش فكنتُ أبحثُ عنه في كل مكان لدى المروجين و المتعاطين ، فساءت حالتي و تركتُ عملي و تدهورت صحتي فـنقـلوني إلى هنا في حالة غيبوبة ، والآن أحمد الله من صميم قلبي على الحالة التي أنا فيها وأشكر من تسبب في إنقاذي .
ثم تحدّث الثاني فقال : أما أنا فقد تخرجتُ من الثانوية العامة و قالوا لي : إن مجموع درجاتي لايؤهلني لدخول الجامعة و كان عليّ أن أتوجه إلى معاهد متخصصة ، ولكنني لم أرغب في ذلك و كانت شهادة الجامعة بالنسبة لي شيئاً مهما في المجتمع ، فجلستُ سنة دون دراسة و في تلك السنة تُوفي والدي وكان لزاما علي أن أعمل وأُساعد إخواني في مصروف البيت ، فوجدتُ عملاً في ورشة للسيارات ،، وبعد شهرٍ من التحاقي بالورشة فكّرتُ في تركها لأني لم أجد فيها زبائن ما عدا سيارة واحدة أو سيارتين فقط خشيتُ من صاحبها أن يطردني لأن العمل قليل … و لكـنّي فوجئتُ به في آخر الشهر يُعطيني راتباً ضخماً لم أحلم به ، فلم أُصدق وفرحتُ كثيراً خاصةً عندما أخبرني أن راتبي سيزداد أيضاً في الشهور القادمة … وفي النهاية تحوّلتْ وظيفتي في الورشة إلى استقبال أشخاص لا أعرفهم ثم أركب معهم في السيارة وآخـذ منهم بعض (الكراتين ) لأحضرها إلى الورشة على أساس أنها قطع غيار و جوالين ( بوهية ) غير أني اكـتشفتُ لاحقا أن هذه الكراتين يأتي إليها من يأخذها في نفس اليوم …
وذات يوم دعاني صاحب الورشة إلى منزله بعد أن توطّدت بيننا الصلة وفي المنزل صارحني بأنه يُتاجر في بيع المخدرات و أن نصيبي أنا من العمليات التي تمت .
( ثلاثين ألف ريال) فـذُهلت مما سمعت و لكن المبلغ شجعني على الاستمرار وأخبرني ساعتها أنه لابد لي من تناول بعض الحبوب التي تُكسب الإنسان الشجاعة وتـُبعد عنه الخوف ، و هذه الطريقة يتـّـبعها كل من يُمارس هذا العمل … هكذا أفهمني عمّي صاحب الورشة ، فأخذتُ من هذه الحبوب و استحسنتُ تأثيرها و كنت أشعر بعد تناولها بالنشوة والنشاط وحب العمل ، و بعد فترة القوا القبض على صاحب الورشة و لحسن الحظ أني كنتُ في تلك الفترة في إجازة و حمدْتُ الله أنه لم يذكر اسمي وهربتُ بجلدي … و لكنني كنت أبحث عن تلك الحبوب التي أصبحتُ مدمناً عليها واتصلتُ بأهل الخبرة في هذا المجال بعد أن أصابني القلق والصداع والفتور في جسمي، وأخبروني أنه لا بد من تـناول حبيتـين يومياً لأعود إلى طبيعتي … و بعد شهر اضطررتُ لزيادة الجرعة إلى (4) حبات وفي النهاية عجزتُ عن شراء هذه الكمية ، فكان يُغمى علي في اليوم مرتين ، وهزل جسمي ، فأخذني أخي إلى الطبيب و اكتشف الأمر وقال إنني مصاب بالسل إلى جانب حالة الإدمان التي أُعاني منها …هذه قصتي و أحمد الله بعد أن شُـفيت و بعد علاج استمر أكثر من سنتين …
بعد أن استمع أبو أحمد لهذه القصص من فم أصحابها أُصيب بالذهول والدهشة وقال : هل تصنع المخدرات كل هذا بمن يتعاطاها ؟ .. ثم توجه إلى الطبيب قائلاً : ولكن لم تخبرني يا دكتور .. لماذا حالة ابني ميؤوس منها ، وكيف كتب الله لهؤلاء النجاة والشفاء وعادوا إلى حياتهم الطبيعية ؟؟ قال الطبيب : يا سيدي هذا يرجع إلى نوعية المخدرات وتأثيرها ، لأن ابنك قد تعاطى الهيروين و هذا نوعٌ خطير يسبب الإدمان من أول مرة ويُحدث أضراراً في الخلايا و الجهاز الحركي يصْعب علاجها ، و لكن مع تطور العلاج قد تنجح بعض المحاولات غير أن هذا يحتاج إلى زمن أطول ، و لكن كل شيء بيد الله ، وربما حوّلنا ابنك للخارج أو إلى المستشفيات الخاصة بهذه الحالة .
شكر أبو أحمد الطبيب على ما قام به وأوصاه بابنه خيرا وودعه هو يتألم لما آلت إليه حالته بعدما سقط في مستنقع المخدرات المرعب بعد أن دفع بنفسه إلى الهاوية التي أنهت كل أمل له في الحياة الكريمة ، و لكنه لم يفقد الأمل في الخالق جل و علا فهو القادر على أن يصرف السوء ويُجيب دعوة المضطر إذا دعاه و ماخاب قط امرؤ قال : يــا أ للــه
ليست هناك تعليقات