بـيـتـنا الـقـديـم - مدونة الأستاذ عواد محمود الصبحي

مدونة الأستاذ عواد محمود الصبحي

اخر الأخبار

بـيـتـنا الـقـديـم

 

بـيـتـنا الـقـديـم

  تخيلوا معي بـيتـنا القديم ؛ وهو مثل كل بيوت الحارة في ذلك الزمن  أول ما يلفت النظر حوش واسع تكون الحجرات  في ناحية منه ؛؛ يعني أجدادنا هم أول من فكر في تصميم ( الفيلا)  كان البناء من الحجر والطين ( أقصد طين البحر) ذا اللون الرمادي يجلبونه بالعربة ( الكرّو ) من أماكن معينة على ساحل البحر ،  والسقف من جذوع النخل يغطيها الجريد والخصف المصنوع من سعف النخيل، وأما الديكور الجميل فمن الحبال التي يكوّنون منها أشكالا هندسية تسمى  ( الشطرنج) .

   ليس للغرفة وكنا نسميها ـ ( القاعة ) ـ إلا فتحة الباب وبقية الجدران سد منيع لا يقل عرض الجدار عن ثمانين سنتيمترا  نادرا ما يزيد عدد غرف البيت عن ثلاث الحمّام واحد فتحته يسقط منها الآدمي بسهولة إلى المصير المجهول لو انزلقت رجله وكنا نطلق على الحـمّـام ـ أدبا ـ بيت الماء ويكون أحيانا بجانبه ( مرْوش ) وهو عبارة عن بلاّعة غطاؤها قذيفة مدفع من مدافع الحرب العالمية !! والماء في تنكة أو حنفية صغيرة بجانبها سطل وإبريق ومغراف من علبة الأناناس .

أما المطبخ فهو ضمن إحدى الغرف وأحيانا يكون عبارة عن عـشّة من الجريد والسعف أو صندقة إذا كان أهل البيت من المتحضرين المتطورين  طبعا كانت البيوت خاليه من وسائل الترفيه التي لا نقدرأنْ نستغني عنها في الوقت الحالي ؛؛ يعني لا ماء في الصنابير ولا كهرباء ولا ثلاجة أو غسالة  ناهيك عن الوسائل الأخرى كالتلفزيون  والأجهزة الكهربائية التي تملأ البيوت الآن كانت وسائل الترفيه ( بئر ) في وسط البيت ؛؛  طبعا البئر ماؤه مالح لأنه متصل بالبحر مباشرة ومربوط فيه دلـو ، وهناك في الركن زير الماء الذي يسع بالكثير ثلاث زفات وفي الظل شربتان من الفخار على (المرْفع )  فاحت منهما رائحة البخور بالمستكى وللعلم فالماء هذا  نأتي به من ( الكنداسة) وهي آلة تقطير  لتحلية مياه البحر وهذا الماء لا يستعمل إلا للشرب والطبخ فقط أما غير ذلك فليس أمامنا إلا ماء البحر الإنارة  بالفانوس نمرة (3) ،  واللمبة تسرج  لا يتغير مكانها  في طاقة صغيرة بالغرفة  أما الإتريك فهو مرحلة جديدة جاءت لاحقا.

وفي وقت الضحى منْ كانت عنده عِـشّـة في وسط البيت يرفع الجزء المواجه للهواء البحري ويستمتع بجلسة رائعة مع براد الشاي أبو جبل نمرة واحد وعند الظهر يكون الخبز البلدي قد تخـّمر نأخذه للفرن قبل أن يطيش  ونعود به استعدادا للغداء فإن كان (طاجن ) كانت الأمنية واللذة والطعم والرائحة  مع الخبـزالحار الملفوف في الخيشة

 إذا ما كان بالتغـميس          كــان اللحس بالكـفِ

  وإمّـا فــتـّـة ٌ كُـبـرى         ستحرمنا من الـرشْـفِ

وعندما يحل المساء نشاهد قرص الشمس كل يوم عند المغيب يختـفي خلف الأفـق إنه منظر في غاية الجمال والكمال أسألكم كم مرة تشاهدون هذا القرص  في الوقت الحالي  ؟؟؟ الجواب معلوم للجميع
    أما نحن في تلك اللحظة فنأخذ أحذيتنا وهي طبعا من النوع الخشب صناعة محلية من إنتاج النجار ( أبو خليفة) اسمها ( القبقاب)  نذهب إلى البحر الذي ما كان يبعد عنّا إلا أمتارا قليلة نغسل  التراب العالق بأجسامنا ونتوضأ ثم نعود للبيت وبعد صلاة المغرب مباشرة يتصاعد الدخان من أكثر البيوت يعـبـق برائحة السردين المشوي ونأكل ما تيسر لنا نحن والبسوس بكل أنواعها وأحجامها وبعد صلاة العشاء لم يبق إلا النوم الهادئ بعد يوم من اللعب والجري والحـفت في الأزقة المحيطة بالمنزل لا معجون أسنان ولا بيجامة نوم ولا سرير أو ناموسية  عندما تطورنا قليلا أصبح عندنا سطوح نستطيع الطلوع إليها بسلم خشبي ، أو التسلق التدريجي على الجدران الواطية وكنا بارعين فيه لو عملوا له  بطولة لحصلنا على الميدالية الذهبية  ؛ طبعا السطوح للرجال أما النساء فهذا مستحيل طلوعهم إليها ، وكانت نومة السطوح ممتعة ؛ سماء صافية إذا نظرت إليها كانت مليئة بالنجوم اللامعة ؛؛ لا أدري أين ذهبت تلك النجوم ؟ أو القمر في بهائه وجماله يزيدك خشوعا وذِكـْرا وطمأنينة ، كانت الأجسام  ضد الرطوبة وضد النامو‍‍س  

ما أجملك يا بيتنا القديم ، كل موضع فيك له ذكرى ، وكل ظفيرة من جدرانك لها سمو ومعنى ، هواؤك مفعم بالشذا ، وأضواؤك الخافتة تجعلنا ننعم بالهدوء ‍‍‍‍والرضا ..
   هذا هو بيتـنا القديم ؛؛ إنه ذلك  المكان الذي لا يـُعرف إلا بزمانه ، والزمان لم يتغير حسّه أو يتبدل نبـضهُ  في عيون من عاصروه  مهما اتسع الكون ومهما بلغ ، فالانسجام بين نفس عاشقة وصورة جميلة لا يطالها النسيان ، ولا تطويها حوادثُ الأزمـان

ليست هناك تعليقات